فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَدًا}.
حكايةٌ لجناية اليهودِ والنصارى ومن يزعُم من العرب أن الملائكةَ بناتُ الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا إثرَ حكاية عبَدةِ الأصنام بطريق عطفِ القصة على القصة وقوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} ردٌّ لمقالتهم الباطلةِ وتهويلٌ لأمرها بطريق الالتفاتِ المنبىءِ عن كمال السخطِ وشدةِ الغضب المُفصِح عن غاية التشنيعِ والتقبيحِ، وتسجيلٌ عليهم بنهاية الوقاحةِ والجهل والجراءة، والإدُّ بالكسر والفتح العظيمُ المنكر، والإدّةُ الشدةُ وأدَني الأمرُ وآدَني أثقلني وعظُم عليّ، أي فعلتم أمرًا منكرًا شديدًا لا يقادَر قدرُه، فإن جاء وأتى يستعملان في معنى فعَلَ فيُعدَّيان تعدِيتَه وقوله تعالى: {تَكَادُ السموات}.. إلخ، صفةٌ لإدًّا أو استئنافٌ لبيان عِظَم شأنه في الشدة والهول، وقرئ {يكاد} بالتذكير {يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} يتشقّقن مرةً بعد أخرى من عِظم ذلك الأمر، وقرئ {ينفطرْن} والأولُ أبلغُ لأن تفعّل مطاوِعُ فعّل، وانفعلَ مطاوعُ فَعَل ولأن أصل التفعّل التكلف.
{وَتَنشَقُّ الأرض} أي تكاد وتنشقّ الأرض {وَتَخِرُّ الجبال} أي تسقُط وتتهدم، وقوله تعالى: {هَدًّا} مصدرٌ مؤكّدٌ لمحذوف هو حالٌ من الجبال أي تُهدّ هدًّا أو مصدرٌ من المبنيّ للمفعول مؤكّدٌ لتخِرُّ على غير المصدر لأنه حينئذ بمعنى التهدّم والخرُور، كأنه قيل: وتخِرّ الجبال خرورًا أو مصدرٌ بمعنى المفعول منصوبٌ على الحالية أي مهدودةً، أو مفعول له أي لأنها تُهَدّ، وهذا تقريرٌ لكونه إدًّا والمعنى أن هَولَ تلك الكلمةِ الشنعاءِ وعِظمَها بحيث لو تَصوّرتْ بصورة محسوسة لم تُطِقْ بها هاتيك الأجرامُ العِظامُ وتفتتت من شدتها أو أن فظاعتَها في استجلاب الغضَبِ واستيجابِ السَّخَط بحيث لولا حِلْمُه تعالى لخُرِّب العالمُ وبُدِّدت قوائمُه غضبًا على من تفوه بها.
{أَن دَعَوْا للرحمن وَلَدًا}.
منصوبٌ على حذف اللام المتعلقةِ بتكاد أو مجرورٌ بإضمارها، أي تكاد السموات يتفطرّن والأرضُ تنشق والجبالُ تخِرّ لأَن دعَوا له سبحانه ولدًا، وقيل: اللامُ متعلقةٌ بهدًّا، وقيل: الجملةُ بدلٌ من الضمير المجرورِ في منه كما في قوله:
على جوده لضنّ بالماء حاتِمُ

وقيل: خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي الموجبُ لذلك أنْ دعوا.. إلخ، وقيل: فاعلُ هدًّا أي هدّها دُعاءُ الولد، والأولُ هو الأولى ودعَوا من دعا بمعنى سمَّى المتعدّي إلى مفعولين، وقد اقتُصر على ثانيهما ليتناولَ كل ما دُعيَ له ولدًا، أو من دعا بمعنى نسب الذي مطاوعُه ادّعى إلى فلان أي انتسب إليه وقوله تعالى: {وَمَا يَنبَغِى للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} حالٌ من فاعل قالوا أو دعَوا، مقرّرةٌ لبطلان مقالتهم واستحالةِ تحقق مضمونها، أي قالوا: اتخذ الرحمن ولدًا أو أنْ دَعوا للرحمن ولدًا، والحال أنه ما يليق به تعالى اتخاذُ الولد ولا يُتطلب له لو طُلب مثلًا لاستحالته في نفسه، ووضعُ الرحمن موضع الضمير للإشعار بعلة الحُكم بالتنبيه على أن كل ما سواه تعالى إما نعمةٌ أو مُنعَمٌ عليه، فكيف يتسنى أن يجانس من هو مبدأُ النعمِ ومولى أصولِها وفروعِها حتى يتوهَّم أن يتخذه ولدًا؟ وقد صرح له قومٌ به عز قائلًا: {إِن كُلُّ مَن في السموات والأرض} أي ما منهم أحدٌ من الملائكة والثقلين {إِلاَّ اتِى الرحمن عَبْدًا} إلا وهو مملوكٌ له يأوي إليه بالعبودية والانقيادِ، وقرئ آتٍ الرحمن على الأصل {لَّقَدْ أحصاهم} أي حصَرهم وأحاط بهم بحيث لا يكاد يخرج منهم أحدٌ من حِيطة علمِه وقبضة قدرتِه وملكوتِه {وَعَدَّهُمْ عَدًّا} أي عد أشخاصَهم وأنفاسَهم وأفعالَهم وكلُّ شيء عنده بمقدار {وَكُلُّهُمْ ءاتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْدًا} أي كلُّ واحدٍ منهم آتٍ إياه تعالى منفردًا من الأتباع والأنصار، وفي صيغة الفاعلِ من الدِلالة على إتيانهم كذلك ألبتةَ ما ليس في صيغة المضارعِ لو قيل: يأتيه، فإذا كان شأنُه تعالى وشأنُهم كما ذكر فأنى يُتوهم احتمالُ أن يتخذ شيئًا منهم ولدًا. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَدًا}.
حكاية لجناية القائلين عزيز ابن الله وعيسى ابن الله والملائكة بنات الله من اليهود والنصارى والعرب تعالى شأنه عما يقولون علوًا كبيرًا إثر حكاية جناية من عبد ما عبد من دونه عز وجل بطريق عطف القصة على القصة فالضمير راجع لمن علمت وإن لم يذكر صريحًا لظهور الأمر. وقيل: راجع للمجرمين. وقيل: للكافرين. وقيل: للكافرين. وقيل: للضالمين. وقيل: للعباد المدلول عله بذكر الفريقين المتقين والمجرمين. وفيه إسناد ما للبعض إلى الكل مع أنهم لم يرضوه وقد تقدم البحث فيه.
وقوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} رد لمقالتهم الباطلة وتهويل لأمرها بطريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب المنبىء عن كمال السخط وشدة الغضب المفصح عن غاية التشنيع والتقبيح وتسجيل عليهم بنهاية الوقاحة والجهل والجرأة، وقيل: لا التفات والكلام بتقدير قل لهم لقد جئتم.. إلخ، والإد بكسر الهمزة كما في قراءة الجمهور وبفتحها كما قرأ السلمي العجب كما قال ابن خالويه.
وقيل: العظيم المنكر والإدة لشدة وأدنى الأمر وآدنى اثقلني وعظم على.
وقال الراغب: الاد المنكر فيه جلبة من قولهم: ادت الناقة تئد أي رجعت حنينها ترجيعًا شديدًا.
وقيل: الاد بالفتح مصدر وبالكسر اسم أي فعلتم أمرًا عجيبًا أو منكرًا شديدًا لا يقادر قدره فإن جاء وأتى يستعملان بمعنى فعل فيتعديان تعديته.
وقال الطبرسي: هو من باب الحذف والإيصال أي جئتم بشيء إد.
{تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} في موضع الفة لِ {إدَّا} [مريم: 89] أو استئناف لبيان عظم شأنه في الشدة والهول، والتفطر على ما ذكره الكثي التشقق مطلقًا، وعلى ما يدل عليه كلام الراغب التشقق طولًا حيث فسر الفطر وهو منه بالشق كذلك، وموارد الاستعمال تقتضي عدم التقييد بما ذكر.
نعم قيل: إنها تقتضي أن يكون الفطر من عوارض الجسم الصلب فإنه يقال: إنا مفطور ولا يقال: ثوب مفطور بل مشقوق، وهو عندي في أعراف الرد والقبول وعليه يكون في نسبة التفطر إلى السموات والانشقاق إلى الأرض في قوله تعالى: {وَتَنشَقُّ الأرض} إشارة إلى أن السماء أصلب من الأرض، والتكثير الذي تدل عليه صيغة التفعل قيل في الفعل لأنه الأوفق بالمقام، وقيل: في متعلقه ورجح بأنه قد قرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وأبو بحرية والزهري وطلحة وحميد واليزيدي وأبو عبيد {ينفطرن} مضارع انفطر وتوافق القراءتين يقتضي ذلك، وبأنه قد اختير الانفعال في تنشق الأرض حيث لا كثرة في المفعول ولذا أول {مِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] بالأقاليم ونحوه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ووجهه بعضهم اختلاف الصيغة على القول بأن التكثير في الفعل بأن السموات لكونها مقدسة لم يعص الله تعالى فيها أصلًا نوعًا ما من العصيان لم يكن لها ألف ما بالمعصية ولا كاذلك الأرض فهي تتأثر من عظم المعصية ما لا تتأثر الأرض.
وقرأ ابن مسعود {يتصدعن} قال في (البحر): وينبغي أن يجعل ذلك تفسيرًا لا قراءة لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه ولرواية الثقات عنه أنه قرأ كالجمهور انتهى.
ولا يخفى عليك أن في ذلك كيفما كان تأييدًا لمن ادعى أن الفطر من عوارض الجسم الصلب بناء على ما في (القاموس) من أن الصدع شق في شيء صلب وقرأ نافع والكسائي وأبوحيوة والأعمش {بالكافرين يَكَادُ} بالياء من تحت {وَتَخِرُّ الجبال} تسقط وتنهد {هَدًّا} نصب على أنه مفعول طملق لتخر لأنه بمعنى تنهد كما أشرنا إلينا وإليه ذهب ابن النحاس. وجوز أن يكون مفعولًا لا مطلقًا لتنهد مقدرًا. والجملة في موضع الحال، وقيل: هو مصدر بمعنى المفعول منصوب على الحال من هد المعتدى أي مهدودة. وجوز أن يكون مفعولًا له أي لأنها تنهد على أنه م هد اللازم بمعنى انهدم ومجيئه لازمًا مما صرح به أبو حيان وهو إمام اللغة والنحو فلا عبرة ممن أنكره، وحينئذ يكون الهد من فعل الجبال فيتحد فاعل المصدر والفعل المعلل به، وقيل: إنه ليس من فعلها لكنها إذا هدها أحد يحصل لها الهد فصح أن يكون مفعولًا له، وفي الكلام تقرير لكون ذلك إدًا والكيدودة فيه على ظاهرها من مقاربة الشيء وفسرها الأخفش هنا.
وفي قوله تعالى: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] بالإرادة وأنشد شاهدًا على ذلك قول الشاعر:
كادت وكدت وتلك خير إرادة ** لو عاد من زمن الصبابة ما مضى

ولا حجة له فيه، والمعنى إن هول تلك الكلمة الشنعاء وعظمها بحيث لو تصور بصورة محسوسة لم تتحملها هذه الأجرام العظام وتفرقت أجزاؤها من شدتها أو أن حق تلك الكلمة لو فهمتها تلك الجمادات العظام أن تتفطر وتنشق وتخر من فظاعتها، وقيل: المعنى كادت القيامة أن تقوم فإن هذه الأشياء تكون حقيقة يوم القيامة، وقيل: الكلام كناية عن غضب الله تعالى على قائل تلك الكلمة وأنه لولا حلمه سبحانه وتعالى لوقع ذلك وهلك القائل وغيره أي كدت أفعل ذلك غضبًا لولا حلمي.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن الشكر فزعت منه السموات والأرض والجبال وجيمع الخلائق إلا الثقلين وكدن أن يزلن منه تعظيمًا لله تعالى وفيه إثبات فهم لتلك الأجرام والأجسام لائق بهن، وقد تقدم ما يتعلق بذلك، وفي (الدر المنثور) في الكلام على هذه الآية، أخرج أحمد في الزهد، وابن المبارك، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وأبو الشيخ في العظمة وابن أبي حاتم، والطبراني والبيهقي في شعب الايمان من طريق عون عن ابن مسعود قال: إن الجبل لينادي الجبل باسمه يا فلان هل مر بك اليوم أحد ذاكر لله تعالى فإذا قال: نعم استبشر قال عون: أفلا يسمعن الزور إذا قيل ولا يسمعن الخير هن للخير أسمع وقرأ {وَقَالُواْ} [مريم: 88] الآيات اه وهو ظاهر في الفهم.
وقال ابن المنير: يظهر لي في الآية معنى لم أره لغيري وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد استعار لدلالة هذه الأجرام على وجوده عز وجل موصوفًا بصفات الكمال الواجبة له سبحانه أن جعلها مسبحة بحمده قال تعالى: {تُسَبّحُ لَهُ السموات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شيء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: 44] ومما دلت عليه السموات والأرض والجبال بل وكل ذرة من ذراتها أن الله تعالى مقدس عن نسبة الولد إليه:
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد

فالمعتقد نسبة الولد إليه عز وجل قد عطل دلالة هذه الموجودات على تنزيه الله تعالى وتقديسه فاستعير لإبطال ما فيها من روح الدلالة التي خلقت لأجلها إبطال صورها بالهد والانفطار والانشقاق اهـ.
واعترض عليه بأن الموجودات إنما تدل على خالق قادر عالم حكيم لدلالة الأثر على المؤثر والقدرة على المقدور واتقان العمل يدل على العمل والحكمة وأما دلالتها على الوحدانية فلا وجه له ولا يثبت مثله بالشعر.
ورد بأنها لو لم تدل جاء حديث التمانع كما حققه المولى الخيالي في (حواشيه) على شرح عقائد النسفي للعلامة الثاني.
وقال بعضهم: إنها تدل على عظم شأنه تعالى وأنه لا يشابهه ولا يدانيه شيء فلزم أن لا يكون له شريك ولا ولد لأنه لو كان كذلك لكان نظيرًا عز وجل. ولذا عبر عن هذه الدلالة بالتسبيح والتنزيه.
ولعل ما أشرنا إليه أولى وأدق، وليس مراد من نسب الولد إليه عز وجل إلا الشرك فتأمل، والجمهور على أن الكلام لبيان بشاعة تلك الكلمة على معنى أنها لو فهمتها الجمادات لاستعظمتها وتفتت من بشاعتها. ونحو هذا مهيع للعرب، قال الشاعر:
لما أتى خبر الزبير تواضعت ** سور المدين والجبال الخشع

وقال الآخر:
فاصبح بطن مكة مقشعرا ** كان الأرض ليس بها هشام

وقال الآخر:
ألم تر صدعًا في السماء مبينا ** على ابن لبيني الحرث بن هشام

إلى غير ذلك ذلك وهو نوع من المبالغة ويقبل إذا اقترن بنحو كاد كما في الآية الكريمة، وقد بين ذلك في محله. {أَن دَعَوْا للرحمن وَلَدًا} بتقدير اللام التعليلية ومحله بعد الحذف نصب عند سيبويه وجر عند الخليل والكسائي، وهو علة للعلية التي تضمنها {مِنْهُ} لكن باعتبار ما تدل عليه الحال أعني قوله تعالى: {وَمَا يَنبَغِى للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا}.
وقيل: علة لتكاد.. إلخ، واعترض بأن كون لِ {تَكَادُ} [مريم: 90].. إلخ. معللًا بذلك قد علم من {مِنْهُ} [مريم: 90] فيلزم التكرار. وأجيب بما لا يخلو عن نظر. وقيل: علة لِ {هدَّا} [مريم: 90] وهو علة للخرور، وقيل ليس هناك لام مقدرة بل أن وما بعدها في تأويل مصدر مجرور بالإبدال من الهاء من منه كما في قوله:
على حالة لو أن في القوم حاتما ** على جوده لضن بالماء حاتم